السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
قرأنا فيما مضى ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن كثير من المبتدعة الذين وقعوا في تأويل الآيات على حسب معتقداتهم.
وكذلك حكم تلك الأقوال الشاذة ومتى يصدق القول؟ ومتى لا يصدق؟ وبيان الأدلة التي تدل على أن رفعه ثابت، وضرب لذلك أمثلة فيما إذا جاء الحديث من طريقين وعرف أن أحدهما لم يلتق بالآخر، ولم يأخذ عنه، فيقطع بصحته إذا توافق الحديثان.
وتعرض أيضا لأخبار الآحاد، وبيان أنها تفيد العلم ولا تفيد الظن؛ وأن الذين ردوها رأوا أنها تخالف ما يعتقدونه فتكلموا فيها وردوا دلالتها، والآن نواصل القراءة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
فصل: وأما النوع الثاني من سبب الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام من كلام هؤلاء صِرْف لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين، مثل تفسير عبد الرزاق ووكيع وعبد بن حميد وعبد الرحمن بن إبراهيم ومثل تفسير الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وبقي بن مخلد وأبي بكر بن المنذر وسفيان بن عيينة وسميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي سعيد الأشج وأبي عبد الله بن ماجه وابن مردويه .
أحدهما قوم اعتقدوا معاني ثم حملوا بعض ألفاظ القرآن عليها. والثاني قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.
فالأولون راعوا المعنى الذي راعوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم.
كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى على الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.
والأولون صنفان تارة يسلبون لفظ القرآن وما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا؛ فيكون خطأ في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطأ في الدليل لا في المدلول.
وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضا في تفسير الحديث.
فالذين أخطئوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم.
تارة يستدلون بآية على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه. ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم.
وهذا كالمعتزلة مثلا فإنهم من أعظم الناس كلاما وجدالا, وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي ومثل كتاب أبي علي الجبائي والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني والجامع لعلوم القرآن لعلي بن عيسى الرماني والكشاف لأبي القاسم الزمخشري .
فهؤلاء وأمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة، وأصول المعتزلة خمس يسمونها، هم: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك. قالوا: إن الله لا يرى، وإن القرآن مخلوق، وإنه ليس فوق العالم، وإنه لا يقوم به علم، ولا قدرة ولا حياة، ولا سمع ولا بصر ولا كلام، ولا مشيئة ولا صفة من الصفات.
وأما عدلهم فمن مضمونه أن الله لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها ولا هو قادر عليها كلها؛ بل عندهم أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعا. وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته، وقد وافقهم على ذلك متأخروا الشيعة كالمفيد وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما ولأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة، لكن يضم إلى ذلك قول الإمامية مثل العشرية، وإن المعتزلة ليس فيهم من يقول بذلك، ولا من ينكر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي .
ومن أصول المعتزلة مع الخوارج إنفاذ الوعيد في الآخرة، وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يخرج منهم أحدا من النار. ولا ريب أنه قد رد عليهم طوائف من المرجئة والكرامية والكلابية وأتباعهم، فأحسنوا تارة وأساءوا أخرى؛ حتى صاروا في طرفي النقيض، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، فليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.
وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم، وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن، إما دليلا على قولهم أو جوابا على المعارض لهم، ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحا يغش العباد في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم فيداخله ما شاء الله.
وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامهم وتفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم ويعتقد فسادها، ولا يهتدي لذلك، ثم إنه بسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية ثم الفلاسفة ثم القرامطة، وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك.
وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة؛ فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي منها العالم عجبا، كتفسير الرافضة كقولهم تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وهما أبو بكر عمر وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أيضا لأبي بكر وعمر وعلي في الخلافة.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً هي عائشة حسب زعمهم. وقوله تعالى: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ طلحة والزبير وقوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ علي وفاطمة وقوله: اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ الحسن والحسين وقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ في علي بن أبي طالب .
وقوله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ علي بن أبي طالب وقوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ هو علي .
ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة. وكذلك قوله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ نزلت في علي لما أصيب بحمزة وما يقارب هذا من بعض الوجوه. وما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ إن الصابرين رسول الله، والصادقين: أبو بكر والقانتين: عمر والمنفقين: عثمان والمستغفرين: علي .
وفي مثل قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو بكر أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ عثمان تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا علي .
وأعجب من ذلك قول بعضهم وَالتِّينِ أبو بكر وَالزَّيْتُونِ عمر وَطُورِ سِينِينَ عثمان وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ علي .
وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال. فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص، وقوله تعالى وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا كل ذلك نعت لـالذين معه وهي التي يسميها النحاة خبرا بعد خبر. والمقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه ولا يجوز أن يكون كل منها مرادا به شخص واحد.
وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام ينحصر في شخص واحد، كقولهم: إن قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أريد بها علي وحده، كقول بعضهم: إن قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أريد بها أبو بكر وحده، وقوله: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أريد بها أبو بكر وحده، ونحو ذلك.
وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل؛ فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري وهو من أجل التفاسير المأثورة وأعظمها قدرا.
ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكي بحال ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين. وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة.
لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية إلى قول آخر يؤيد مذهب ما اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، صاروا مشاركين المعتزلة وغيرهم من أهل البدع من مثل هذا.
وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك كالمبتدعة، وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب.
ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيره فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا.
ومعلوم أنه كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها؛ إما عقلية وإما سمعية كما هو مبسوط في موضعه. والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير، وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه، وفسروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أريد به، وتأولوه على غير تأويله.
فمن أسباب العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه، وأنه الحق وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم، وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع، ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق.
وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره، وأن الذين يخطئون في الدليل لا في المدلول، فمثل هذا كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، يفسرون القرآن بمعان صحيحة لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير ممن ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير، وإن كان فيما ذكروا إنما هو معان باطلة فإن ذلك يدخل في القسم الأول، وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعا حيث يكون المعنى الذي يقصدونه فاسدا.
شكـوت إلى وكيع سـوء حفظـي | فأرشـدني إلـى تـرك المعـاصي |
وقـال اعلـم بـأن العلـم نــور | ونـور اللـه لا يــؤتاه عـاص |